في ظلال سورة الطور
صفحة 1 من اصل 1
في ظلال سورة الطور
من كتاب "في ظلال القرآن" لسيد قطب
تعريف لسورة الطور
هذه السورة تمثل حملة عميقة التأثير فى القلب البشري . ومطاردة عنيفة للهواجس والشكوك والشبهات والأباطيل التي تساوره وتتدسس إليه وتختبئ هنا وهناك في حناياه . ودحض لكل حجة وكل عذر قد يتخذه للحيدة عن الحق والزيغ عن الإيمان . . حملة لا يصمد لها قلب يتلقاها , وهي تلاحقه حتى تلجئه إلى الإذعان والاستسلام !
وهي حملة يشترك فيها اللفظ والعبارة , والمعنى والمدلول , والصور والظلال , والإيقاعات الموسيقية لمقاطع السورة وفواصلها على السواء . ومن بدء السورة إلى ختامها تتوالى آياتها كما لو كانت قذائف , وإيقاعاتها كما لو كانت صواعق , وصورها وظلالها كما لو كانت سياطا لاذعة للحس لا تمهله لحظة واحدة من البدء إلى الختام !
وتبدأ السورة بقسم من الله سبحانه بمقدسات في الأرض والسماء . بعضها مكشوف معلوم !وبعضها مغيب مجهولوالطور . وكتاب مسطور . في رق منشور . والبيت المعمور . والسقفالمرفوع). . القسم على أمر عظيم رهيب , يرج القلب رجا , ويرعب الحس رعبا . في تعبير يناسب لفظه مدلوله الرهيب ; وفي مشهد كذلك ترجف له القلوبإن عذاب ربك لواقع . ما له من دافع ,يوم تمور السماء مورا , وتسير الجبال سيرا). . وفي وسط المشهد المفزع نرى ونسمع ما يزلزل ويرعب , من ويل وهول , وتقريع وتفزيع: (فويل يومئذ للمكذبين , الذين هم في خوض يلعبون . يوم يدعون إلى نار جهنم دعا . هذه النار التي كنتم بها تكذبون .أفسحر هذا ? أم أنتم لا تبصرون ? اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا , سواء عليكم , إنما تجزون ما كنتم تعملون). .
هذاشوط من حملة المطاردة . يليه شوط آخر من لون آخر . شوط في إطماع القلوب التي رأت ذلك الهول المرعب - إطماعها في الأمن والنعيم . بعرض صورة المتقين وما أعد لهم من تكريم . وما هيئ لهم من نعيم رخي رغيد , يطول عرضه , وتكثر تفصيلاته , وتتعدد ألوانه .مما يستجيش الحس إلى روح النعيم وبرده ; بعد كرب العذاب وهولهإن المتقين في جنات ونعيم . فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم . كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون . متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين . والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم , وما ألتناهم من عملهم من شيء , كل امرئ بما كسب رهين . وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون . يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم . ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون . وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون .قالوا:إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين . فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم .إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم). . والآن وقد أحس القلب البشري سياط العذاب في الشوط الأول ; وتذوق حلاوة النعيم في الشوط الثاني . . الآن يجيء الشوط الثالث يطارد الهواجس والوساوس ; ويلاحق الشبهات والأضاليل ;ويدحض الحجج والمعاذير . ويعرض الحقيقة بارزة واضحة بسيطة عنيفة . تتحدث بمنطق نافذ لا يحتمل التأويل , مستقيم لا يحتمل اللف والدوران . يلوي الأعناق ليا ويلجئها إلى الإذعان والتسليم . . ويبدأ هذا الشوط بتوجيه الخطاب إلى رسول الله [ص ] ليمضي في تذكيره لهم , على الرغم من سوء أدبهم معه ; وليقرعهم بهذا المنطق النافذ القوي المستقيم: فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون . أم يقولون:شاعر نتربص به ريب المنون ? قل:تربصوا فإني معكم من المتربصين . أم تأمرهم أحلامهم بهذا ?أم هم قوم طاغون ? أم يقولون تقوله ? بل لا يؤمنون . فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين .أم خلقوا من غير شيء ? أم هم الخالقون ? أم خلقوا السماوات والأرض ? بل لا يوقنون .أم عندهم خزائن ربك ? أم هم المصيطرون ? أم لهم سلم يستمعون فيه ? فليأت مستمعهم بسلطان مبين . أم له البنات ولكم البنون ? أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ?أم عندهم الغيب فهم يكتبون ? أم يريدون كيدا ? فالذين كفروا هم المكيدون . أم لهم إله غير الله ? سبحان الله عما يشركون . .
وعقب هذه الأسئلة المتلاحقة . بل هذه القذائف الصاعقة . التي تنسف الباطل نسفا , وتحرج المكابر والمعاند , وتخرس كل لسان يزيغ عن الحق أو يجادل فيه . . عقب هذا يصور تعنتهم وعنادهم في صورة الذي يكابر في المحسوسوإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا :سحاب مركوم). والفرق بين قطعة السماء تسقط وبين السحاب واضح , ولكنهم هم يتلمسون كل شبهة ليعدلوا عن الحق الواضح .
هنا لقي عليهم بالقذيفة الأخيرة . قذيفة التهديد الرعيب , بملاقاة ذلك المشهد المرهوب ,الذي عرض عليهم في مطلع السورةفذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون .يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون). . كما يهددهم بعذاب أقرب من ذلك العذاب وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك , ولكن أكثرهم لا يعلمون). . ثم تختم السورة بإيقاع رضي رخي . . إنه موجه إلى الرسول الكريم الذي يقولون عنه: (شاعر نتربص به ريب المنون). . ويقولون:كاهن أو مجنون . موجه إليه من ربه يسليه ويعزيه في إعزاز وتكريم . في تعبير لا نظير له في القرآن كله ; ولم يوجه من قبل إلى نبي أو رسول: (واصبر لحكم ربك , فإنك بأعيننا ,وسبح بحمد ربك حين تقوم ,ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم). .
إنه الإيقاع الذي يمسح على العنت والمشقة اللذين يلقاهما الرسول الكريم , من أولئك المتعنتين المعاندين , الذين اقتضت مواجهتهم تلك الحملة العنيفة من المطاردة والهجوم . .
الدرس الأول:1 - 16 القسم بالمخلوقات على حقيقة القيامة ومشاهدها
(والطور . وكتاب مسطور . في رق منشور . والبيت المعمور . والسقف المرفوع . والبحر المسجور . إن عذاب ربك لواقع . ما له من دافع . يوم تمور السماء مورا . وتسير الجبال سيرا . فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون . يوم يدعون إلى نار جهنم دعا . هذه النار التي كنتم بها تكذبون . أفسحر هذا ? أم أنتم لا تبصرون ? اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا , سواء عليكم , إنما تجزون ما كنتم تعملون). .
هذه الآيات القصيرة , والفواصل المنغمة , والإيقاعات الفاصلة , تصاحب السورة من مطلعها .وهي تبدأ كلمة واحدة . ثم تصبح كلمتين . ثم تطول شيئا فشيئا حتى تبلغ في نهاية المقطع اثنتي عشرة كلمة . مع المحافظة الكاملة على قوة الإيقاع . والطور :الجبل فيه شجر . والأرجح أن المقصود به هو الطور المعروف في القرآن , المذكور في قصة موسى - عليه السلام - والذي نزلت فوقه الألواح . فالجو جو مقدسات يقسم بها الله سبحانه على الأمر العظيم الذي سيجيء والكتاب المسطور في رق منشور . الأقرب أن يكون هو كتاب موسى الذي كتب له في الألواح .للمناسبة بينه وبين الطور . وقيل . هو اللوح المحفوظ . تمشيا مع ما بعده :البيت المعمور , والسقف المرفوع . ولا يمتنع أن يكون هذا هو المقصود . والبيت المعمور:قد يكون هو الكعبة . ولكن الأرجح أن يكون بيت عبادة الملائكة في السماء لما ورد في الصحيحين في حديث الإسراء:" ثم رفع بي إلى البيت المعمور , وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم " . . يعني يتعبدون فيه ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم ! والسقف المرفوع:السماء . قاله سفيان الثوري وشعبة وأبو الأحوص عن سماك بن خالد بن عرعرة عن علي - كرم الله وجهه - قال سفيان:ثم تلاوجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون). والبحر المسجور:المملوء . وهو أنسب شيء يذكر مع السماء في مشهد . في انفساحهوامتلائه وامتداده . وهو آية فيها رهبة ولها روعة . تؤهلانه للذكر مع هذه المشاهد المقسم بها على الأمر العظيم . وقد يكون معنى المسجور:المتقد . كما قال في سورة أخرى وإذا البحار سجرت)أي توقدت نيرانا . كما أنه قد يشير إلى خلق آخر كالبيت المرفوع يعلمه الله .
يقسم الله سبحانه بهذه الخلائق العظيمة على أمر عظيم . بعد أن يتهيأ الحس بهذه الإيقاعات لاستقبال ذلك الأمر العظيم: )إن عذاب ربك لواقع , ما له من دافع). فهو واقع حتما , لا يملك دفعه أحد أبدا . وإيقاع الآيتين والفاصلتين حاسم قاطع . يلقي في الحس أنه أمر داهم قاصم , ليس منه واق ولا عاصم . وحين يصل هذا الإيقاع إلى الحس البشري بلا عائق فإنه يهزه ويضعضعه ويفعل به الأفاعيل . . قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا:حدثنا أبي حدثنا موسى بن داود , عن صالح المري ,عن جعفر بن زيد العبدي قال:خرج عمر يعس بالمدينة ذات ليلة , فمر بدار رجل من المسلمين , فوافقه قائما يصلي , فوقف يستمع قراءته فقرأوالطور). حتى بلغإن عذاب ربك لواقع , ما له من دافع). قال:قسم ورب الكعبة حق . فنزل عن حماره .واستند إلى حائط , فمكث مليا , ثم رجع إلى منزله , فمكث شهرا يعوده الناس لا درون ما مرضه . رضي الله عنه . وعمر -رضي الله عنه - سمع السورة قبل ذلك , وقرأها , وصلى بها , فقد كان رسول لله [ص ] يصلي بها المغرب . وعمر يعلم . ويتأسى . ولكنها في تلك الليلة صادفت منه قلبا مكشوفا , وحسا مفتوحا , فنفذت إليه وفعلت به هذا الذي فعلت . حين وصلت إليه بثقلها وعنفها وحقيقتها اللدنية المباشرة ; التي تصل إلى القلوب في لحظات خاصة , فتتخللها وتتعمقها , في لمسة مباشرة كهذه اللمسة , تلقى فيها القلب الآية من مصدرها الأول كما تلقاها قلب رسول الله [ ص ] فأطاقها لأنه تهيأ لتلقيها . فأما غيره فيقع لهم شيء مما وقع لعمر - رضي الله عنه - حين تنفذ إليهم بقوة حقيقتها الأولى . .
ويعقب هذا الإيقاع الرهيب مشهد مصاحب له رهيب:يوم تمور السماء مورا , وتسير الجبال سيرا). . ومشهد السماء الثابتة المبنية بقوة وهي تضطرب وتتقلب كما يضطرب الموج في البحر من هنا إلى هناك بلا قوام . ومشهد الجبال الصلبة الراسية تسير خفيفة رقيقة لا ثبات لها ولا استقرار . أمر مذهل مزلزل . يدل ضمنا على الهول الذي تمور فيه السماء وتسير منه الجبال . فكيف بالمخلوق الإنساني الصغير الضعيف في ذلك الهول المذهل المخيف ?! وفي زحمة هذا الهول الذي لا يثبت عليه شيء ; وفي ظل هذا الرعب المزلزل لكل شيء , يعاجل المكذبين بما هو أهول وأرعب . يعاجلهم بالدعاء عليهم بالويل من العزيز الجبار :فويل يومئذ للمكذبين . الذين هم في خوض يلعبون). والدعاء بالويل من الله حكم بالويل وقضاء . فهو أمر لا محالة واقع , ما له من دافع .وهو كائن حتما , يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا . فيتناسب هذا الهول مع ذلك الويل , وينصب كله على المكذبين . .(الذين هم في خوض يلعبون). . وهذا الوصف ينطبق ابتداء على أولئك المشركين ومعتقداتهم المتهافتة , وتصوراتهم المهلهلة ;وحياتهم القائمة على تلك المعتقدات وهذه التصورات , التي وصفها القرآن وحكاها في مواضع كثيرة . وهي لعب لا جد فيه . لعب يخوضون فيه كما يخوض اللاعب في الماء ,غير قاصد إلى شاطئ أو هدف , سوى الخوض واللعب ! ولكنه يصدق كذلك على كل من يعيش بتصور آخر غير التصور الإسلامي . . وهذه حقيقة لا يدركها الإنسان إلا حين يستعرض كل تصورات البشر المشهورة - سواء في معتقداتهم أو أساطيرهم أو فلسفاتهم - في ظل التصور الإسلامي للوجود الإنساني ثم للوجود كله . . إن سائر التصورات - حتى لكبار الفلاسفة الذين يعتز بهم تاريخ الفكر الإنساني تبدو محاولات أطفال يخبطون ويخوضون في سبيل الوصول إلى الحقيقة . تلك الحقيقة التي تعرض في التصور الإسلامي - وبخاصة في القرآن - عرضا هادئا ناصعا قويا بسيطا عميقا . يلتقي مع الفطرة التقاء مباشرا دون كد ولا جهد ولا تعقيد . لأنه يطالعها بالحقيقة الأصيلة العميقة فيها . ويفسر لها الوجود وعلاقتها به , كما يفسر لها علاقة الوجود بخالقه تفسيرا يضاهي ما استقر فيها ويوافقه . وطالما عجبت وأنا أطالع تصورات كبار الفلاسفة ; وألاحظ العناء القاتل الذي يزاولونه ,وهم يحاولون تفسير هذا الوجود وارتباطاته ; كما يحاول الطفل الصغير حل معادلة رياضية هائلة . .وأمامي التصور القرآني واضحا ناصعا سهلا هينا ميسرا طبيعيا , لا عوج فيه ولا لف ولا تعقيد ولا التواء . وهذا طبيعي , فالتفسير القرآني للوجود هو تفسير صانع هذا الوجود لطبيعته وارتباطاته . . أما تصورات الفلاسفة فهي محاولات أجزاء صغيرة من هذا الوجود لتفسير الوجود كله . والعاقبة معروفة لمثل هذه المحاولات البائسة !
إنه عبث . وخلط . وخوض . . حين يقاس إلى الصورة المكتملة الناضجة , المطابقة , التي يعرضها القرآن على الناس , فيدعها بعضهم إلى تلك المحاولات المتخبطة الناقصة , المستحيلة الاكتمال والنضوج !وإن الأمور لتظل مضطربة في حس الإنسان وتصوره , متأثرة بالتصورات المنحرفة , وبالمحاولات البشرية الناقصة . . ثم يسمع آيات من القرآن في الموضوع الذي يساوره . فإذا النور الهادئ . والميزان الثابت . وإذا هو يجد كل شيء في موضعه , وكل أمر في مكانه ,وكل حقيقة هادئة مستقرة لا تضطرب ولا تمور . ويحس بعدها أن نفسه استراحت , وأن باله هدأ , وأن عقله اطمأن إلى الحق الواضح , وقد زال الغبش والقلق واستقرت الأمور .كذلك يبدو أن الناس في خوض يلعبون من ناحية اهتماماتهم في الحياة . حين تقاس بالاهتمامات التي يثيرها الإسلام في النفس , ويعلق بها القلب , ويشغله بتدبرها وتحقيقها .وتبدو تفاهة تلك الاهتمامات وضآلتها , والمسلم ينظر إلى اشتغال أهلها بها ,وانغماسهم فيها , وتعظيمهم لها , وحديثهم عنها كأنها أمور كونية عظمى ! وهو ينظر إليهم كما ينظر إلى الأطفال المشغولين بعرائس الحلوى وبالدمى الميتة , يحسبونها شخوصا ; ويقضون أوقاتهم في مناغاتها واللعب معها وبها !!!
إن الإسلام يرفع من اهتمامات البشر بقدر ما يرفع من تصورهم للوجود الإنساني وللوجود كله ; وبقدر ما يكشف لهم عن علة وجودهم وحقيقته ومصيره ; وبقدر ما يجيب إجابة صادقة واضحة عن الأسئلة التي تساور كل نفس:من أين جئت ? لماذا جئت ? إلى أين أذهب ?وإجابة الإسلام عن هذه الأسئلة تحدد التصور الحق للوجود الإنساني وللوجود كله . فإن الإنسان ليس بدعا من الخلائق كلها . فهو واحد منها . جاء من حيث جاءت . وشاركها علة وجودها . ويذهب إلى حيث تقتضي حكمة خالق الوجود كله أن يذهب . فالإجابة على تلك لأسئلة تشمل كذلك تفسيرا كاملا للوجود كله , وارتباطاته وارتباطات الإنسان به . وارتباط الجميع بخالق الجميع وهذا التفسير ينعكس على الاهتمامات الإنسانية في الحياة ; ويرفعها إلى مستواه . ومن ثم تبدو اهتمامات الآخرين صغيرة هزيلة في حس المسلم المشغول بتحقيق وظيفة وجوده الكبرى في هذا الكون , عن تلك الصغائر والتفاهات التي يخوض فيها اللاعبون ! إن حياة المسلم حياة كبيرة - لأنها منوطة بوظيفة ضخمة , ذات ارتباط بهذا الوجود الكبير ,وذات أثر في حياة هذا الوجود الكبير . وهي أعز وأنفس من أن يقضيها في عبث ولهو وخوض ولعب . وكثير من اهتمامات الناس في الأرض يبدو عبثا ولهوا وخوضا ولعبا حين يقاس إلى اهتمامات المسلم الناشئة من تصوره لتلك الوظيفة الضخمة المرتبطة بحقيقة الوجود . وويل لأولئك الخائضين اللاعبينيوم يدعون إلى نار جهنم دعا). . وهو مشهد عنيف . فالدع :الدفع في الظهور . وهي حركة غليظة تليق بالخائضين اللاعبين , الذين لا يجدون , ولا ينتبهون إلى ما يجري حولهم من الأمور . فيساقون سوقا ويدفعون في ظهورهم دفعا . حتى إذا وصل بهم الدفع والدع إلى حافة النار قيل لهمهذه النار التي كنتم بها تكذبون )وبينما هم في هذا الكرب , بين الدع والنار التي تواجههم على غير إرادة منهم . يجيئهم الترذيل والتأنيب , والتلميح إلى ما سبق منهم من التكذيبأفسحر هذا ? أم أنتم لا تبصرون ?). فقد كانوا يقولون عن القرآن:إنه سحر . فهل هذه النار التي يرونها كذلك سحر ?! أم إنه الحق الهائل الرعيب ? أم إنهم لا يبصرون هذه النار كما كانوا لا يبصرون الحق في القرآن الكريم ?! وحين ينتهي هذا التأنيب الساخر المرير يعاجلهم بالتيئيس البئيس .(اصلوها . فاصبروا أو لا تصبروا . سواء عليكم . إنما تجزون ما كنتم تعملون). .وليس أقسى على منكوب بمثل هذه النكبة . من أن يعلم أن الصبر وعدم الصبر سواء . فالعذاب واقع , ما له من دافع . وألمه واحد مع الصبر ومع الجزع . والبقاء فيه مقرر سواء صبر عليه أم هلع . . والعلة أنه جزاء على ما كان من عمل . فهو جزاء له سببه الواقع فلا تغيير فيه ولا تبديل !
وبذلك ينتهي هذا المشهد الرعيب ; كما ينتهي الشوط الأول بإيقاعه العنيف .
تعريف لسورة الطور
هذه السورة تمثل حملة عميقة التأثير فى القلب البشري . ومطاردة عنيفة للهواجس والشكوك والشبهات والأباطيل التي تساوره وتتدسس إليه وتختبئ هنا وهناك في حناياه . ودحض لكل حجة وكل عذر قد يتخذه للحيدة عن الحق والزيغ عن الإيمان . . حملة لا يصمد لها قلب يتلقاها , وهي تلاحقه حتى تلجئه إلى الإذعان والاستسلام !
وهي حملة يشترك فيها اللفظ والعبارة , والمعنى والمدلول , والصور والظلال , والإيقاعات الموسيقية لمقاطع السورة وفواصلها على السواء . ومن بدء السورة إلى ختامها تتوالى آياتها كما لو كانت قذائف , وإيقاعاتها كما لو كانت صواعق , وصورها وظلالها كما لو كانت سياطا لاذعة للحس لا تمهله لحظة واحدة من البدء إلى الختام !
وتبدأ السورة بقسم من الله سبحانه بمقدسات في الأرض والسماء . بعضها مكشوف معلوم !وبعضها مغيب مجهولوالطور . وكتاب مسطور . في رق منشور . والبيت المعمور . والسقفالمرفوع). . القسم على أمر عظيم رهيب , يرج القلب رجا , ويرعب الحس رعبا . في تعبير يناسب لفظه مدلوله الرهيب ; وفي مشهد كذلك ترجف له القلوبإن عذاب ربك لواقع . ما له من دافع ,يوم تمور السماء مورا , وتسير الجبال سيرا). . وفي وسط المشهد المفزع نرى ونسمع ما يزلزل ويرعب , من ويل وهول , وتقريع وتفزيع: (فويل يومئذ للمكذبين , الذين هم في خوض يلعبون . يوم يدعون إلى نار جهنم دعا . هذه النار التي كنتم بها تكذبون .أفسحر هذا ? أم أنتم لا تبصرون ? اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا , سواء عليكم , إنما تجزون ما كنتم تعملون). .
هذاشوط من حملة المطاردة . يليه شوط آخر من لون آخر . شوط في إطماع القلوب التي رأت ذلك الهول المرعب - إطماعها في الأمن والنعيم . بعرض صورة المتقين وما أعد لهم من تكريم . وما هيئ لهم من نعيم رخي رغيد , يطول عرضه , وتكثر تفصيلاته , وتتعدد ألوانه .مما يستجيش الحس إلى روح النعيم وبرده ; بعد كرب العذاب وهولهإن المتقين في جنات ونعيم . فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم . كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون . متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين . والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم , وما ألتناهم من عملهم من شيء , كل امرئ بما كسب رهين . وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون . يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم . ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون . وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون .قالوا:إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين . فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم .إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم). . والآن وقد أحس القلب البشري سياط العذاب في الشوط الأول ; وتذوق حلاوة النعيم في الشوط الثاني . . الآن يجيء الشوط الثالث يطارد الهواجس والوساوس ; ويلاحق الشبهات والأضاليل ;ويدحض الحجج والمعاذير . ويعرض الحقيقة بارزة واضحة بسيطة عنيفة . تتحدث بمنطق نافذ لا يحتمل التأويل , مستقيم لا يحتمل اللف والدوران . يلوي الأعناق ليا ويلجئها إلى الإذعان والتسليم . . ويبدأ هذا الشوط بتوجيه الخطاب إلى رسول الله [ص ] ليمضي في تذكيره لهم , على الرغم من سوء أدبهم معه ; وليقرعهم بهذا المنطق النافذ القوي المستقيم: فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون . أم يقولون:شاعر نتربص به ريب المنون ? قل:تربصوا فإني معكم من المتربصين . أم تأمرهم أحلامهم بهذا ?أم هم قوم طاغون ? أم يقولون تقوله ? بل لا يؤمنون . فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين .أم خلقوا من غير شيء ? أم هم الخالقون ? أم خلقوا السماوات والأرض ? بل لا يوقنون .أم عندهم خزائن ربك ? أم هم المصيطرون ? أم لهم سلم يستمعون فيه ? فليأت مستمعهم بسلطان مبين . أم له البنات ولكم البنون ? أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ?أم عندهم الغيب فهم يكتبون ? أم يريدون كيدا ? فالذين كفروا هم المكيدون . أم لهم إله غير الله ? سبحان الله عما يشركون . .
وعقب هذه الأسئلة المتلاحقة . بل هذه القذائف الصاعقة . التي تنسف الباطل نسفا , وتحرج المكابر والمعاند , وتخرس كل لسان يزيغ عن الحق أو يجادل فيه . . عقب هذا يصور تعنتهم وعنادهم في صورة الذي يكابر في المحسوسوإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا :سحاب مركوم). والفرق بين قطعة السماء تسقط وبين السحاب واضح , ولكنهم هم يتلمسون كل شبهة ليعدلوا عن الحق الواضح .
هنا لقي عليهم بالقذيفة الأخيرة . قذيفة التهديد الرعيب , بملاقاة ذلك المشهد المرهوب ,الذي عرض عليهم في مطلع السورةفذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون .يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون). . كما يهددهم بعذاب أقرب من ذلك العذاب وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك , ولكن أكثرهم لا يعلمون). . ثم تختم السورة بإيقاع رضي رخي . . إنه موجه إلى الرسول الكريم الذي يقولون عنه: (شاعر نتربص به ريب المنون). . ويقولون:كاهن أو مجنون . موجه إليه من ربه يسليه ويعزيه في إعزاز وتكريم . في تعبير لا نظير له في القرآن كله ; ولم يوجه من قبل إلى نبي أو رسول: (واصبر لحكم ربك , فإنك بأعيننا ,وسبح بحمد ربك حين تقوم ,ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم). .
إنه الإيقاع الذي يمسح على العنت والمشقة اللذين يلقاهما الرسول الكريم , من أولئك المتعنتين المعاندين , الذين اقتضت مواجهتهم تلك الحملة العنيفة من المطاردة والهجوم . .
الدرس الأول:1 - 16 القسم بالمخلوقات على حقيقة القيامة ومشاهدها
(والطور . وكتاب مسطور . في رق منشور . والبيت المعمور . والسقف المرفوع . والبحر المسجور . إن عذاب ربك لواقع . ما له من دافع . يوم تمور السماء مورا . وتسير الجبال سيرا . فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون . يوم يدعون إلى نار جهنم دعا . هذه النار التي كنتم بها تكذبون . أفسحر هذا ? أم أنتم لا تبصرون ? اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا , سواء عليكم , إنما تجزون ما كنتم تعملون). .
هذه الآيات القصيرة , والفواصل المنغمة , والإيقاعات الفاصلة , تصاحب السورة من مطلعها .وهي تبدأ كلمة واحدة . ثم تصبح كلمتين . ثم تطول شيئا فشيئا حتى تبلغ في نهاية المقطع اثنتي عشرة كلمة . مع المحافظة الكاملة على قوة الإيقاع . والطور :الجبل فيه شجر . والأرجح أن المقصود به هو الطور المعروف في القرآن , المذكور في قصة موسى - عليه السلام - والذي نزلت فوقه الألواح . فالجو جو مقدسات يقسم بها الله سبحانه على الأمر العظيم الذي سيجيء والكتاب المسطور في رق منشور . الأقرب أن يكون هو كتاب موسى الذي كتب له في الألواح .للمناسبة بينه وبين الطور . وقيل . هو اللوح المحفوظ . تمشيا مع ما بعده :البيت المعمور , والسقف المرفوع . ولا يمتنع أن يكون هذا هو المقصود . والبيت المعمور:قد يكون هو الكعبة . ولكن الأرجح أن يكون بيت عبادة الملائكة في السماء لما ورد في الصحيحين في حديث الإسراء:" ثم رفع بي إلى البيت المعمور , وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم " . . يعني يتعبدون فيه ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم ! والسقف المرفوع:السماء . قاله سفيان الثوري وشعبة وأبو الأحوص عن سماك بن خالد بن عرعرة عن علي - كرم الله وجهه - قال سفيان:ثم تلاوجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون). والبحر المسجور:المملوء . وهو أنسب شيء يذكر مع السماء في مشهد . في انفساحهوامتلائه وامتداده . وهو آية فيها رهبة ولها روعة . تؤهلانه للذكر مع هذه المشاهد المقسم بها على الأمر العظيم . وقد يكون معنى المسجور:المتقد . كما قال في سورة أخرى وإذا البحار سجرت)أي توقدت نيرانا . كما أنه قد يشير إلى خلق آخر كالبيت المرفوع يعلمه الله .
يقسم الله سبحانه بهذه الخلائق العظيمة على أمر عظيم . بعد أن يتهيأ الحس بهذه الإيقاعات لاستقبال ذلك الأمر العظيم: )إن عذاب ربك لواقع , ما له من دافع). فهو واقع حتما , لا يملك دفعه أحد أبدا . وإيقاع الآيتين والفاصلتين حاسم قاطع . يلقي في الحس أنه أمر داهم قاصم , ليس منه واق ولا عاصم . وحين يصل هذا الإيقاع إلى الحس البشري بلا عائق فإنه يهزه ويضعضعه ويفعل به الأفاعيل . . قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا:حدثنا أبي حدثنا موسى بن داود , عن صالح المري ,عن جعفر بن زيد العبدي قال:خرج عمر يعس بالمدينة ذات ليلة , فمر بدار رجل من المسلمين , فوافقه قائما يصلي , فوقف يستمع قراءته فقرأوالطور). حتى بلغإن عذاب ربك لواقع , ما له من دافع). قال:قسم ورب الكعبة حق . فنزل عن حماره .واستند إلى حائط , فمكث مليا , ثم رجع إلى منزله , فمكث شهرا يعوده الناس لا درون ما مرضه . رضي الله عنه . وعمر -رضي الله عنه - سمع السورة قبل ذلك , وقرأها , وصلى بها , فقد كان رسول لله [ص ] يصلي بها المغرب . وعمر يعلم . ويتأسى . ولكنها في تلك الليلة صادفت منه قلبا مكشوفا , وحسا مفتوحا , فنفذت إليه وفعلت به هذا الذي فعلت . حين وصلت إليه بثقلها وعنفها وحقيقتها اللدنية المباشرة ; التي تصل إلى القلوب في لحظات خاصة , فتتخللها وتتعمقها , في لمسة مباشرة كهذه اللمسة , تلقى فيها القلب الآية من مصدرها الأول كما تلقاها قلب رسول الله [ ص ] فأطاقها لأنه تهيأ لتلقيها . فأما غيره فيقع لهم شيء مما وقع لعمر - رضي الله عنه - حين تنفذ إليهم بقوة حقيقتها الأولى . .
ويعقب هذا الإيقاع الرهيب مشهد مصاحب له رهيب:يوم تمور السماء مورا , وتسير الجبال سيرا). . ومشهد السماء الثابتة المبنية بقوة وهي تضطرب وتتقلب كما يضطرب الموج في البحر من هنا إلى هناك بلا قوام . ومشهد الجبال الصلبة الراسية تسير خفيفة رقيقة لا ثبات لها ولا استقرار . أمر مذهل مزلزل . يدل ضمنا على الهول الذي تمور فيه السماء وتسير منه الجبال . فكيف بالمخلوق الإنساني الصغير الضعيف في ذلك الهول المذهل المخيف ?! وفي زحمة هذا الهول الذي لا يثبت عليه شيء ; وفي ظل هذا الرعب المزلزل لكل شيء , يعاجل المكذبين بما هو أهول وأرعب . يعاجلهم بالدعاء عليهم بالويل من العزيز الجبار :فويل يومئذ للمكذبين . الذين هم في خوض يلعبون). والدعاء بالويل من الله حكم بالويل وقضاء . فهو أمر لا محالة واقع , ما له من دافع .وهو كائن حتما , يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا . فيتناسب هذا الهول مع ذلك الويل , وينصب كله على المكذبين . .(الذين هم في خوض يلعبون). . وهذا الوصف ينطبق ابتداء على أولئك المشركين ومعتقداتهم المتهافتة , وتصوراتهم المهلهلة ;وحياتهم القائمة على تلك المعتقدات وهذه التصورات , التي وصفها القرآن وحكاها في مواضع كثيرة . وهي لعب لا جد فيه . لعب يخوضون فيه كما يخوض اللاعب في الماء ,غير قاصد إلى شاطئ أو هدف , سوى الخوض واللعب ! ولكنه يصدق كذلك على كل من يعيش بتصور آخر غير التصور الإسلامي . . وهذه حقيقة لا يدركها الإنسان إلا حين يستعرض كل تصورات البشر المشهورة - سواء في معتقداتهم أو أساطيرهم أو فلسفاتهم - في ظل التصور الإسلامي للوجود الإنساني ثم للوجود كله . . إن سائر التصورات - حتى لكبار الفلاسفة الذين يعتز بهم تاريخ الفكر الإنساني تبدو محاولات أطفال يخبطون ويخوضون في سبيل الوصول إلى الحقيقة . تلك الحقيقة التي تعرض في التصور الإسلامي - وبخاصة في القرآن - عرضا هادئا ناصعا قويا بسيطا عميقا . يلتقي مع الفطرة التقاء مباشرا دون كد ولا جهد ولا تعقيد . لأنه يطالعها بالحقيقة الأصيلة العميقة فيها . ويفسر لها الوجود وعلاقتها به , كما يفسر لها علاقة الوجود بخالقه تفسيرا يضاهي ما استقر فيها ويوافقه . وطالما عجبت وأنا أطالع تصورات كبار الفلاسفة ; وألاحظ العناء القاتل الذي يزاولونه ,وهم يحاولون تفسير هذا الوجود وارتباطاته ; كما يحاول الطفل الصغير حل معادلة رياضية هائلة . .وأمامي التصور القرآني واضحا ناصعا سهلا هينا ميسرا طبيعيا , لا عوج فيه ولا لف ولا تعقيد ولا التواء . وهذا طبيعي , فالتفسير القرآني للوجود هو تفسير صانع هذا الوجود لطبيعته وارتباطاته . . أما تصورات الفلاسفة فهي محاولات أجزاء صغيرة من هذا الوجود لتفسير الوجود كله . والعاقبة معروفة لمثل هذه المحاولات البائسة !
إنه عبث . وخلط . وخوض . . حين يقاس إلى الصورة المكتملة الناضجة , المطابقة , التي يعرضها القرآن على الناس , فيدعها بعضهم إلى تلك المحاولات المتخبطة الناقصة , المستحيلة الاكتمال والنضوج !وإن الأمور لتظل مضطربة في حس الإنسان وتصوره , متأثرة بالتصورات المنحرفة , وبالمحاولات البشرية الناقصة . . ثم يسمع آيات من القرآن في الموضوع الذي يساوره . فإذا النور الهادئ . والميزان الثابت . وإذا هو يجد كل شيء في موضعه , وكل أمر في مكانه ,وكل حقيقة هادئة مستقرة لا تضطرب ولا تمور . ويحس بعدها أن نفسه استراحت , وأن باله هدأ , وأن عقله اطمأن إلى الحق الواضح , وقد زال الغبش والقلق واستقرت الأمور .كذلك يبدو أن الناس في خوض يلعبون من ناحية اهتماماتهم في الحياة . حين تقاس بالاهتمامات التي يثيرها الإسلام في النفس , ويعلق بها القلب , ويشغله بتدبرها وتحقيقها .وتبدو تفاهة تلك الاهتمامات وضآلتها , والمسلم ينظر إلى اشتغال أهلها بها ,وانغماسهم فيها , وتعظيمهم لها , وحديثهم عنها كأنها أمور كونية عظمى ! وهو ينظر إليهم كما ينظر إلى الأطفال المشغولين بعرائس الحلوى وبالدمى الميتة , يحسبونها شخوصا ; ويقضون أوقاتهم في مناغاتها واللعب معها وبها !!!
إن الإسلام يرفع من اهتمامات البشر بقدر ما يرفع من تصورهم للوجود الإنساني وللوجود كله ; وبقدر ما يكشف لهم عن علة وجودهم وحقيقته ومصيره ; وبقدر ما يجيب إجابة صادقة واضحة عن الأسئلة التي تساور كل نفس:من أين جئت ? لماذا جئت ? إلى أين أذهب ?وإجابة الإسلام عن هذه الأسئلة تحدد التصور الحق للوجود الإنساني وللوجود كله . فإن الإنسان ليس بدعا من الخلائق كلها . فهو واحد منها . جاء من حيث جاءت . وشاركها علة وجودها . ويذهب إلى حيث تقتضي حكمة خالق الوجود كله أن يذهب . فالإجابة على تلك لأسئلة تشمل كذلك تفسيرا كاملا للوجود كله , وارتباطاته وارتباطات الإنسان به . وارتباط الجميع بخالق الجميع وهذا التفسير ينعكس على الاهتمامات الإنسانية في الحياة ; ويرفعها إلى مستواه . ومن ثم تبدو اهتمامات الآخرين صغيرة هزيلة في حس المسلم المشغول بتحقيق وظيفة وجوده الكبرى في هذا الكون , عن تلك الصغائر والتفاهات التي يخوض فيها اللاعبون ! إن حياة المسلم حياة كبيرة - لأنها منوطة بوظيفة ضخمة , ذات ارتباط بهذا الوجود الكبير ,وذات أثر في حياة هذا الوجود الكبير . وهي أعز وأنفس من أن يقضيها في عبث ولهو وخوض ولعب . وكثير من اهتمامات الناس في الأرض يبدو عبثا ولهوا وخوضا ولعبا حين يقاس إلى اهتمامات المسلم الناشئة من تصوره لتلك الوظيفة الضخمة المرتبطة بحقيقة الوجود . وويل لأولئك الخائضين اللاعبينيوم يدعون إلى نار جهنم دعا). . وهو مشهد عنيف . فالدع :الدفع في الظهور . وهي حركة غليظة تليق بالخائضين اللاعبين , الذين لا يجدون , ولا ينتبهون إلى ما يجري حولهم من الأمور . فيساقون سوقا ويدفعون في ظهورهم دفعا . حتى إذا وصل بهم الدفع والدع إلى حافة النار قيل لهمهذه النار التي كنتم بها تكذبون )وبينما هم في هذا الكرب , بين الدع والنار التي تواجههم على غير إرادة منهم . يجيئهم الترذيل والتأنيب , والتلميح إلى ما سبق منهم من التكذيبأفسحر هذا ? أم أنتم لا تبصرون ?). فقد كانوا يقولون عن القرآن:إنه سحر . فهل هذه النار التي يرونها كذلك سحر ?! أم إنه الحق الهائل الرعيب ? أم إنهم لا يبصرون هذه النار كما كانوا لا يبصرون الحق في القرآن الكريم ?! وحين ينتهي هذا التأنيب الساخر المرير يعاجلهم بالتيئيس البئيس .(اصلوها . فاصبروا أو لا تصبروا . سواء عليكم . إنما تجزون ما كنتم تعملون). .وليس أقسى على منكوب بمثل هذه النكبة . من أن يعلم أن الصبر وعدم الصبر سواء . فالعذاب واقع , ما له من دافع . وألمه واحد مع الصبر ومع الجزع . والبقاء فيه مقرر سواء صبر عليه أم هلع . . والعلة أنه جزاء على ما كان من عمل . فهو جزاء له سببه الواقع فلا تغيير فيه ولا تبديل !
وبذلك ينتهي هذا المشهد الرعيب ; كما ينتهي الشوط الأول بإيقاعه العنيف .
هاجر- عضو مشارك
- نقاط : 49090
تقيم : 2
تاريخ التسجيل : 09/06/2011
مواضيع مماثلة
» فى ظلال سورة النجم
» سورة الذاريات
» تأملات في سورة النساء-
» تعليق على أهداف سورة البقرة
» المتعة والإيناس في تدبر سورة الناس
» سورة الذاريات
» تأملات في سورة النساء-
» تعليق على أهداف سورة البقرة
» المتعة والإيناس في تدبر سورة الناس
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى